مداولة : الفلسفة في قفص الاتهام
عون المحكمة : محححححححكمة
القاضي : ملف عدد 1 . مضمون الملف شكاية تقدم بها المسمى الحس المشترك،ضد المسماة "الفلسفة" يتهمها بما يلي : التهديد بالقتل ، إنكار الحقائق العامية , المتاجرة في بيع جرعات تكفيرية وحبوب حمق وهلوسة. الملف إذن ملف ثقيل وشائك و متشعب.
القاضي ينادي على الحس المشترك ، يسأله : اسمك،عمرك،عنوانك،مقر سكناك ، مهنتك.
الحس المشترك : اسمي الحس المشترك، عمري لست أدري.أسكن في حي التصورات العامية ،عمارة العقول العاطلة. مهنتي المتاجرة في الأفكار الشعبية . ولأنني جاهل غير متعلم فأنا أطلب توكيل محامي يدافع عني.
القاضي : يؤازر الحس المشترك محامي أفكار الناس.
القاضي ينادي على الفلسفة : اسمك ،عمرك، مكان الازدياد،مكان الإقامة، مهنتك.
الفلسفة : اسمي الفلسفة،عمري 27 قرنا، مزدادة باليونان،أسكن في برج الفكر الشامخ،عمارة العقول النيرة. مهنتي البحث في مغالق الوجود ومجاهل الإنسان والعمل على تحرير العقول من ويلات الحس المشترك.
القاضي : هل توكلين محاميا يؤازرك ؟.
الفلسفة : (مبتسمة) لا سيدي القاضي. لن أوكل محاميا.فالعقل لا يحتاج إلى موكل ..فهو موكل نفسه والمدافع عن حقيقته. ووحدها العقول القاصرة وصاحبة القرائن الضعيفة من تستأجر محامين.
القاضي : حسنا حسنا. المهم أنت متهمة بتهديد الحس المشترك بالقتل في عقر داره وأنا هنا لإنصاف المظلوم وعقاب الظالم.
الفلسفة : وأنا هنا أقبل الحكم مهما كان شكله.لأنني واثقة أن للقضاء عقلا يفكر ومنطقا يحكم عندما يشتغل باستقلالية عن مقصلة السياسة.
__________________________
القاضي : ينادي على الحس المشترك، يسأله :
_ قل لي هل حقا ما تتهم به الفلسفة صحيح أم أنه كذب و بهتان .
الحس المشترك : سيدي القاضي أنا لا أكذب…فالكل في الأحياء الفكرية الشعبية يشهد لي بحسن سيرتي وقوامة سلوكي. إن الفلسفة تهدد عائلتي بالقتل.
القاضي : من هم أفراد عائلتك ؟
الحس المشترك : عائلتي كبيرة جدا ومن أصول عريييقة ، تتكون من جدي الفكر العامي وجدتي الثقافة الشعبية ووالداي الأسطورة و السحر إضافة إلى أعمام وأخوال وجيران…أترى "أنا من عائلة عظظظظظييييييييمة"….
محامي الحس المشترك : سيدي القاضي ، إن موكلي تعرض للتهديد من طرف المتهمة المسماة الفلسفة..التي تنكر حقائقنا التي عشنا عليها زمنا طويلا..وتروج لأفكار ما سمعنا بها يوما...فكيف يعقل أن يقبلها ضميرنا الجمعي المشترك ... سيدي القاضي إن استقرار فكرنا العامي رهين بمحاربة الفلسفة ومطاردتها بل ومعاقبتها ، حتى يبقى أمرها عبرة لكل فكر دخيل يدعي امتلاك الحقيقة. وما رفض الفلسفة توكيل محامي لها إلا دليل صادق على عجرفتها وتكبرها..
القاضي للفلسفة : سمعت ما تقدم به الحس المشترك ومحاميه...فما ردك ؟
الفلسفة : سيدي القاضي العاقل
ان غاية الإنسان في هذا الوجود هي تدبر وجوده وتعقل وجود غيره...وهذه الغاية لا تتحقق إلا إذا اشتغل العقل بموازين المنطق والتفكير السليم الذي يستند للحجة والبرهان والدليل.. وعليه فان الحس المشترك وعائلته الفاضلة والعريقة ، لا تريد للعقل هذه الوظيفة النبيلة. وبالتالي فهي تعمل بكل قوة على إبقاء العقل الإنساني عاطلا دون عمل...وإذا عمل فهو لا يعمل سوى في حقول الحس المشترك التي لا تنتج إلا الأوهام والأساطير والتمثلات الخاطئة. وهذا ما لا ترتضيه الفلسفة..
القاضي : هل حقا تدعين امتلاك الحقيقة؟؟.
الفلسفة : لو أني امتلك الحقيقة لما سخرت حياتي وأدواتي للبحث عنها. المسألة ليست مسألة امتلاك...فالامتلاك والرغبة في التملك ظاهرة مرضية تحيل على الأنانية..بكل بساطة أنا لست تمليكا للحكمة بل أنا محبة للحكمة كما عرفني فيتاغورس.
القاضي : ومن هم العمال الذين يشتغلون في أراضيك ؟
الفلسفة : إنهم الفلاسفة...أشخاص استطاعوا تحرير عقولهم من قبضة الميتوس وقبلوا معانقة اللوغوس.
______________________________
القاضي للحس المشترك : هل حقا تقيد العقل وتمنعه من العمل؟؟...ألا تعرف إن تقييد العقول من جرائم الفكر ؟
الحس المشترك : سيدي القاضي ..نعم أقيد العقل وأمنعه من العمل لأنه إذا عمل ستسود الفوضى في مملكتي وتنهار أسوار امبراطوريتي وتتفكك أسرتي....إن بداية العقل هي بداية نهايتي.
المحامي : سيدي القاضي إن لموكلي شاهد عيان سيشهد لصالحه ..اسمه الخيال الشعبي...المرجو من المحكمة الموقرة مناداته.
عون المحكمة : الشااااهد الخيييييال الشعبي
القاضي للخيال الشعبي : اسمك ، مقر سكناك ، مهنتك ؟
الخيال الشعبي : اسمي الخيال الشعبي أسكن في هامش العقل ، مهنتي تضليل العقل البشري وتوهيمه بمغالطات...لكن هو دائما لي بالمرصاد...
القاضي : هل تربطك بالحس المشترك علاقة ؟
الخيال الشعبي : أجل علاقة مصاهرة ومجاورة.
القاضي : قل شهادتك ؟ وأتمنى أن تكون شهادة حق لا شهادة زور.
الخيال الشعبي : سيدي القاضي...لأنني أسكن على هامش العقل ...وبحكم أن الفلسفة تسكن جوهر العقل..ولأنه معهود في التجسس على الآخرين...فقد التقطت مسامعي حديثا دار بين الفلسفة والعقل...حيث سمعتها تقول بأنها تمتلك أسلحة فتاكة وقنابل عنقودية ستفجرها في الساحة العمومية لقتل الحس المشترك...
القاضي للفلسفة : سمعت ما قاله الشاهد...فكيف تردين؟.
الفلسفة : سيدي القاضي إن الخيال الشعبي بلطجي من بلطجية الحس المشترك..انه عميله وخادمه...وما أكثر بلاطجة الحس المشترك الذين لا يفتؤون يقتحمون المجمعات العقلية محاولة لإجهاض ميلاد كل فكرة عقلية.
القاضي : وهل حقا تمتلكين أسلحة فتاكة ؟
الفلسفة : سيدي القاضي ، أنا ضد قيم العنف وارفض كل أشكال الإرهاب الفكري..أدافع عن قيم السلم والتعايش...وعليه فأنا لا اخطط لقتل الحس المشترك كما يزعم الشاهد البلطجي. أنا أروم جعل الحس المشترك يفحص مرتكزاته فيبقي على العاقلة الصلبة ويتخلص من الوهمية الهشة..
القاضي : لكن هو قال انك تمتلكين أسلحة.
الفلسفة : هو سماها مجانا أسلحة . لكنها هي ليست أسلحة ..هي مجموع الأدوات التي اشتغل بها في مطبخ الفكر...التساؤل والنقد والشك والبرهان والتحليل هي أدواتي وليست أسلحتي..ليست لي مشاريع تسلح لأنني لا اعتبر من يخالفني عدوا بقدر ما اعتبره موضوعا اشتغل فيه وعليه بالتحليل والمناقشة..
القاضي : حسنا حسنا انك تبطلين كل التهم..ولعل تدخل ممثل الحق العام يكشف خيط الصدق من خيوط الكذب.
__________________________
القاضي : أعطي الكلمة للسيد ممثل النيابة العامة
ممثل النيابة العامة : سيدي القاضي ، السادة أعضاء المحكمة الموقرة .إننا اليوم بصدد محاكمة واحدة من كبريات القضايا التي يتداولها العوام والخواص...أن التهم الموجهة للمتهمة المسماة الفلسفة , لا تهم فقط مصلحة الحس المشترك ، بقدر ما تهم مصلحة نسقنا الفكري بصفة عامةـ الذي صمد لزمن طويل ضد محاولات الهدم من طرف التيارات الفكرية العاقلة. بصفتي مدافعا عن الحق العام، فأنا بدوري أوجه للفلسفة تهم الحمق والكفر والثرثرة..وأطالب القاضي بالحكم عليها بأشد العقوبات ، ليبقى أمرها عبرة لكل فكر يشابهها أو يتشبه بها.
القاضي للفلسفة : يتهمك ممثل الحق العام بالجنون والحمق ...فهل حقا أنت حمقاء ؟
الفلسفة : لست حمقاء ...كيف لي أن أكون حمقاء وأنا من أنجبت علوما عاقلة...أنا أم العلوم..إن الفلاسفة هم أنفسهم الرياضيون والفيزيائيون الذين تعملون بنظرياتهم الرياضية أمثال طاليس وفيتاغورس وديمقريطس واقليدس وباطلموس..إن تفكيري عاقل لأنه يحتكم لقواعد المنطق..
القاضي : وتهمة الكفر كيف تردين عليها ؟؟؟
الفلسفة : إنها تهمة باطلة....وما يبطلها تجدونه في كتب ابن رشد وابن سينا والفارابي وابن باجة وابن طفيل وديكارت وآخرين ...إننا في أرض الفلسفة ننتج تفكيرا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون...انه خالق مكتمل ...وحقيقة الموجد جلية في حقيقة الموجودات. إن الفلسفة ليست ضد الدين، لأن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة . وعليه فالحق لا يضاد الحق. كفى من توزيع التهم مجانا... فالفلسفة خطاب عقلاني.. والدين الإسلامي متنه كله عقل و علم... هكذا فالدين يحث الإنسان على التدبر والتأمل والتعقل وفي هذا الأمر آيات قرآنية كريمة.
القاضي : الحكم بعد المداولة
_____________________________
القاضي : بناء على مجريات التحقيق ..وبعد الاستماع المفصل لأقوال الحس المشترك ومحاميه وكذا تدخل ممثل الحق العام...وبعد الاستماع لأقوال الفلسفة وردودها...ولان القضاء يجب أن ينصف الجميع ...ولان العقل هو محرك المجتمع نحو مزيد من الرقي...ولأن الفلسفة تاريخيا كانت تخدم قضايا الحق والعدل....
وعليه ،وبعد المداولة القضائية، قررنا ما يلي :
أولا : تبرئة الفلسفة من التهم الموجهة إليها وإطلاق سراحها دون قيد ولا شرط .
ثانيا : الحكم على الحس المشترك بضرورة التسجيل في مدرسة الفلسفة وتعلم مبادئ التفكير السليم .
رفعت الجلسة
سيناريو : جمال الدين البعزاوي ثانوية الريف أجدير