لا يأبى حتى الدهانيون في توسيم عصرنا الراهن بأنه عصر التقنية بامتياز..أو عصر المكننة الجديدة التي تؤشرعلى نسبية الحياة الإنسانية و نسبية القيم التي من خلالها و أجلها يستقي الإنسان شرايين التفكير و الترييض السلوكي..ومن المفارقات العجيبة أن الإنسان فكر في التقنية فأبدعها من رحم تفكيره المتواضع لكن سرعان ما سقط في قبضة التقنية التي أحكمت وجوده داخل عوالم كشفت عن هشاشة قواعد الوجود البشري....لتتحول بذلك التقنية إلى سفينة وجودية ينتقل على متنها البشر من عوالم العقل و الإنسانية و المنطق و الاتيكا نحو عوالم الجنون و التيهان الهوياتي...
إن الانتشاء العميق الذي عرفه عقل التقنية يجد منطقه في حد واحد هو الميتافزيقا...فالميتافيزقا هي مولد التقنية و مآلها.ومن داخل التخييل الأسطوري لشأن التقنية، كانت الشعلة النارية هي الجوهر الأول لامتلاك الإنسان للتقنية بعد أن كانت حكرا على الآلهة...ورأفة بالإنسان الذي انوجد في عراء الوجود مفتقدا لأبجديات التفكير الاستهلاكي سرق برومثييوس النار من آلهة اليونان ومنحها للإنسان لتكون الشرارة الأولى لانبثاق التقنيات المختلفة.
و اليوم، ما البركان المتدفق لهالة التقنية سوى استشراف لاكتمال الميتافيزيقا....وبمقاربة فلسفية واضحة أقول "التقنية هي الميتافيزقا الناضجة...إنها لسانها الأصيل...ونقطة التئام الطبيعة مع الإله...و انذواب الروحين المشتركين في أصل الانبثاق و المتخارجين في مسيرة الانجلاء" .
إن التقنية المعاصرة بمناعمها ومآخذها لتسير بسيرورة البشر نحو صيرورة الاكتمال الوجودي...الذي يرتكن لعنوان تراجيدية الوجود أو الوجود التراجيدي..وما هذا سوى نهاية افتراض على فرضية نهاية التاريخ و تساؤل عن من سيكون الإنسان الأخير الذي سيتربع على عرش النهاية..؟. يفهم لغز التقنية بأنها خطاب المنح و الاستلاب،التفوق و الخضوع،التعالي و التدني....أنها اكتساب الإنسان لبعض صبغيات الإله : العقل و الحكمة و الجبروت و الإرادة و السلطة.....لكن كلما تحققت في الإنسان هذه الاواليات إلا و انتزعت منه في نفس الوقت..بحيث تحولت التقنية إلى آلة تجريد الإنسان من خصائص العقل و المجتمع و الجنس.ليفقد بذلك الآدمي كل رساميله التي توهم أنها تضخمت لديه...إنها أزمة الإفلاس المطلق ......إفلاس أسهم الإنسانية : العقل و المجتمع و العمل و الجنس...في مقابل هذا التجريد و الاستلاب اكتسبت التقنية طابع العضوية....أصبحت عضوا فيزيولوجيا في بنية جسد الإنسان.....بمعنى آخر أمست التقنية عضوا من أعضاء الجسم !!!! كيف ذلك ؟؟؟؟؟.
فمن جهة جردت التقنية الإنسان من خاصية العقل و التفكير مقابل تفردها هي بهذه العمليات و الأفعال التي تشكل الجوهر المميز للإنسان عن بقية الكائنات الأخرى..وبإفلاس مقاولة التفكير تم تسريح العامل / العقل ليتحول من عقل نشيط و عملي و منتج إلى عقل خام و عاقر...وبتعاقب الزمن على بطالة العقل لن تبق منه إلا الأنقاض شاهدة على أنه كان للإنسان عقل يفكر في الأزمنة الغابرة،أما اليوم فما تبقى من آثاره ستلحق بالمتاحف الثرية إلى جانب العجلة و الفؤوس البرونزية. وعلى هذا الأساس حلت التقنية ( الحاسوب و الآلة الحاسبة) على جسد الإنسان كعضو جديد لاستبدال عضو العقل المهترث و الهرم.; استبدال أجزاء الجسد كما تستبدل أجزاء السيارات.
وعلى مستوى التحولات الاجتماعية،نفت التقنية الإنسان من مجتمعه الأصيل و الحقيقي و رمت به في مغالق عالم افتراضي متخيل...عالم كائنات جديدة و شبكات ترميز و تشفير و تلغيز. لتتحول بموجب ذلك هويته من هوية اجتماعية نحو هوية رقمية.ومع هذا التحول سيستبدل الإنسان مرة أخرى متنه القيمي و الأخلاقي مقابل متن أكسيومي جديد...حيث التدرج التدريجي و التحول المتدرج من محايثة الواقع نحو مفارقته.ليتم الانسلاخ من قواعد ومحددات السلوك المجتمعي و الأخلاقي...;رقابة الأنا الأعلى; وذلك مناشدة لعالم آخر أكثر ارتياحا من مرارة الواقع الحقيقي...وهو ما يوقع الإنسان في شخصيات ذات طابع بوفاري ;شخصية بوذارية.
ولم يخل حقل البراكسيس هو الآخر من تقويض التقنية له ونفي الإنسان منه و الارتماء به في عالم البطالة...بعد أن أثبتت المكننة كفاءاتها في الإنتاج الاقتصادي الذي من أهم مراميه ربح الزمن و تحسين الجودة و تكديس الإنتاج في إطار الأهداف الكبرى للعقل الرأسمالي الذي يحكم معجم الاقتصاد بقوانينه وقيمه البراغماتية... لقد تفوقت الروبوات في الاستجابة لحاجيات المصنع و البيت و الشارع و الحقل...فكانت النتيجة المنطقية لذلك تسريح ملايين العمال في العالم...و لأن الاقتصاد يعد القلب النابض للمجتمع حسب الأطروحة الماركسية فان بطالة الإنسان أثرت بشكل فضيع على النسق الاجتماعي...مما تسبب في تفكيك أسر وتشريد بشر و بالتالي ارتفاع أسهم الفقر و الإجرام في مملكة البشر....وكذا ارتفاع حجم التعزيب و التعنيس و التطليق فتعطلت بذلك الخدمات النفسية و الجنسية للإنسان...مما ولد نصا وجوديا جديدا بعنوان ; أزمة الإنسان و بداية حمق البشر.
إن الجنس المنظم و الشرعي و الطبيعي كان آخر الرساميل المتبقية للكائن البشري ..لكن هذا الراسمال لم يسلم هو الآخر من الأزمة الإنسانية العالمية التي تحكمت فيها جائحة انفلونزا التقنية.التي أتت على الأخضر و اليابس من الماهيات و الجواهر التي طالما افتخر بها الإنسان كخصوصيات آدمية.أصبحت التقنية هي الموضوع الذي فيه ومن خلاله يتحقق الاورغازم الذي يعد من أكبر القواسم المشتركة لتقاطع الإنسان و الحيوان. أصبحت التقنية حاضرة في الفعل الجنسي بمواقع ثلاث هي : الواسط الجنسي و الفاعل الجنسي و المفعول الجنسي... في خضم هذا الانحراف الخطير في دوال البشر الانسانية...تطرح إشكالات خطيرة من قبيل: كيف ستكون حياة البشر في المستقبل؟ هل المحرك الإنساني يتجه نحو الاشتغال السليم أم العطالة المطلقة؟ .
بقلم جمال الدين البعزاوي -الحسيمة-